رواية مريود (الجزء الاول)
صفحة 1 من اصل 1
رواية مريود (الجزء الاول)
(2)
سعيد عشا البايتات القوى
قال الطاهر ود الرواس وهم على ظهور حميرهم ضحى . في طريقهم إلى سوق الخميس :
(( يومذاك أنت سألتني سؤال وأنا رديت عليه ، لكن إنت قطع شك ما سمعت الجواب )) .
أي سؤال ؟ وأي جواب ؟ ولكن سعيد القانوني كان أسبق . قال من على ظهر حماره (( الخندقاوي )) الملقب (( تاني دور)) كأنه يتحدث من منصه :
(( محيميد مما رجع من ود حامد وهو يسأل وينشد تقول عاوز يألف تواريخ )) . ضحك سعيد عشا البايتات القوى ، وضحك أحمد أبو البنات . كان عشا البايتات في طرف الركب ، كأنه على مسيرة جيش غازي ، بحماره ((الكورتاوي)) الأسود ذي الغرة على جبينه ، لجامه يشلشل ، والغررة طويلة ذات عبل تكاد تمس الأرض ، وهو بساقيه القصيرين وعسامته الكبيرة وشاربه المبروم كأنه أوزة تجلس على سنام جمل . قال :
(( أنا أديت محيميد كلام يغرفوه بي موازين الدهب والفضة . أوعى تنساه ، وقت تجي للكتابة)) !
قال أحمد بمرح :
(( إنت وين لقيت الكلام يا سجم الرماد ، كلامك كله خارم بارم )) .
كان رد سعيد عشا البايتات انه ضرب الحمارة على عجزها بعصاه الخيزران . لم تكترث ولم تغير سرعتها بل نفضت رأسها في الهواء بصلف . نظر إليها عشا البايتات بإعجاب ، نظرة متفحصة ناقدة ، وقال :
(( دحين يا أبو البنات الحمارة دي مو بت الحمارة العديلة ديك الجابها جدك من بحري ؟)).
وقال الطاهر ود الرواس :
(( المحسية حبوبتها . دي بت بتها . إنت الزمن ده كله عميان ولا شنو يا مرمد ؟ )) .
وقال سعيد القانوني :
(( عشا البايتات معذور . مخه مشغول بأمور السياسات العليا . دحين هو فاضي كمان عشان يأكد الحمارة أمها منو وحبوبتها منو ؟ والله يا الطاهر إنت ماليك حق . دا راجل بقى في زمرة الحكام الأجاويد أولاد البلد )) .
وقال الطاهر :
(( صدقت والله . دا زول من الكبارات . نحن الليلة أتشرفنا خلاص وقت جنابك زاملتنا للسوق . بعد شوية تشوفوا يا جماعة . أول نصل عند الجميز ، يقابلنا الحرس ، كركون سلاح ، يضربوا لنا تعظيم ، عشان جلات عشا البايتات )).
وقال أحمد :
(( صح أنت ليه ما بتشتريلك عربية بيب "جب" زي الرجال ؟ القروش الكتيرة دي رايد تخليها لي منوب ؟
وقال سعيد القانوني :
(( عربيات الجب إن شاء الله تطير في السماء . أولاد بكري من يومما جابو عربيتهم مسخو علينا دخول السوق . كل دقيقة وتانية توت وتوت ، عملوا لنا صداع )) .
هذا الكلام لم يغضب عشا البايتات . قال ، وهو يضحك ضحكته القديمة ، وقد أمال عمامته قليلا إلى الأمام ، في زاوية تقول بان سعيد عشا البايتات لا يبالي بأحد .
كانت حوافر الحمير تقعقع في الحصا محدثة نغما نشطا متحفزا ، يتزعمها حمار سعيد في أقصى اليسار ، تليه حمارة ود الرواس التي تسير بلا جهد ، مثل شخص واثق من مقدرته ، ثم حمار سعيد القانوني وحمارة محيميد في الوسط ، وفي اليمنة حمارة احمد أبو البنات . وعلى بعد منهم حمار عبد الحفيظ ، يسير كأنما وحده ، يسرع ويبطئ . كان عبد الحفيظ صامتا ، يحرك حبات مسبحته ، وقد وضع عنان الحمار على حافة السرج ، وتركه يمشي على هواه . قال سعيد عشا البايتات :
(( المال كتير أحمد الله ، وعربية الجب إن كنت عاوزها ماها مشكلة . لكن علي اليمين الإنسان مهما كان ، إذا ما شد للسوق فوق حمار عيل زي ده ، وخت فوقو السرج السناري والفروة المرعز ، وربط البطان وشكا له اللجام ، واتحكر قعد ، والحمار يمسي رب رب ، زي كأنه سردار ولا حكمدار ، والحمار ينهق ها ها فوق الحلال ... عليك أمان الله الراجل إن ما سوى جنس دا ما يقولوا عليه راجل أخو بنات )) .
قال الطاهر :
(( عشا السجم أتاريه عندو فهم )).
وقال أحمد :
(( وين يلقى الفهم ؟ حتى عن بقى اشترالو بابور بحر يا هو سجمه ورماده )) .
تجاهل عشا البايتات كل هذا ، ونظر إلى الحمارة وقال بإعجاب :
(( الحمارة دي طفيانة بالحيل . الداهية تقول أيل انحلا )) .
تعثرت الحمارة وكادت تقع ، وقال أحمد مذعورا ، بين الجد والضحك :
(( الله لا أداك حسنة . ما عارفاك ، عينك حارة زي نار جهنم . سحرت البهيمة )) .
قال عشا البايتات :
(( إذا عاوز تلبيها هسع اشتريها منك )) .
قال سعيد القانوني :
(( إنت حمارك الراكبه دا شن عيبه ؟ إذا كان القروش غلبتك ما تشوف لك مرة تعرسها )) .
قال ود الرواس :
(( عشا البايتات بعد دا ماليه عرس . أحسن له يمشي يحج )) .
وقال أحمد :
(( ويبقى اسمه شنو ؟ حاج عشا البايتات ؟)).
قال الطاهر :
عشا البايتات شنو كمان من الحج ؟ يبقى اسمه حاج سعيد )) .
ضحك سعيد عشا البايتات القوى ضحكة طويلة ، تخفي تحتها كلاما كثيرا . ومن عجب أن عبد الحفيظ أيضا خرج عن عزلته وصمته ، فضحك ضحكة قصيرة ضحلة ، جعلت محيميد يدرك بغتة كمن يتذكر ، أن عبد الحفيظ موجود معهم . بعد ذلك غنقطع حبل الحديث ، لأن شيئا ما في إنعكاس الضوء على سطح ماء النهر ، جعل محيميد يلتفت إلى الوراء ، أدار عنان حمارته واستقبل مشرق الشمس . بانت له من ذلك البعد كأنها على هضبة ، بلا أول ولا آخر ، مكشوفة كإنسان ينام في العراء بلا غطاء . الضفة الشمالية صفراء تتوهج تحت شمس الضحى ، ثم النهر، يختفي ويبين ، كالسراب ، كالبرق . أشجار السنط والطلح تتشبث بالماء ، تليها حقول القمح ، وحين يستقر النظر على غابات النخل في الوسط ، تفاجئه فورة الحياة فيها . حقول أخرى تمتد حتى أسفل البيوت ، بعدها رمال وصحراء لا تنتهي . بانت له معلقة في فراغ ، تدنو فإذا هي على مد الذراع ، ثم تعدو مبتعدة عنه كأنها حلم عسير المنال . هناك في وضح النهار سمع أصواتهم ، ورآهم مرأى العيان . تنادوا به من ناحية النهر والصحراء ، من الشرق والغرب . رآهم يخرجون من الماء ، ويتسللون بين فروع الشجر ، ويقفزون فوق هامات النخل ورؤوس البيوت ، وينطون كأنهم يرقصون فوق القباب ويذوبون في شعاع الشمس . الوقت ليس هذا ولا ذاك ، ولكن الشروق كالمغيب ، يصيران ، ويتكرران في كل ومضة عين . تنظر بلا فزع ولا دهشة ، ثم بوعي تام جذب عنان حمارته وأدار ظهره للشمس
سعيد عشا البايتات القوى
قال الطاهر ود الرواس وهم على ظهور حميرهم ضحى . في طريقهم إلى سوق الخميس :
(( يومذاك أنت سألتني سؤال وأنا رديت عليه ، لكن إنت قطع شك ما سمعت الجواب )) .
أي سؤال ؟ وأي جواب ؟ ولكن سعيد القانوني كان أسبق . قال من على ظهر حماره (( الخندقاوي )) الملقب (( تاني دور)) كأنه يتحدث من منصه :
(( محيميد مما رجع من ود حامد وهو يسأل وينشد تقول عاوز يألف تواريخ )) . ضحك سعيد عشا البايتات القوى ، وضحك أحمد أبو البنات . كان عشا البايتات في طرف الركب ، كأنه على مسيرة جيش غازي ، بحماره ((الكورتاوي)) الأسود ذي الغرة على جبينه ، لجامه يشلشل ، والغررة طويلة ذات عبل تكاد تمس الأرض ، وهو بساقيه القصيرين وعسامته الكبيرة وشاربه المبروم كأنه أوزة تجلس على سنام جمل . قال :
(( أنا أديت محيميد كلام يغرفوه بي موازين الدهب والفضة . أوعى تنساه ، وقت تجي للكتابة)) !
قال أحمد بمرح :
(( إنت وين لقيت الكلام يا سجم الرماد ، كلامك كله خارم بارم )) .
كان رد سعيد عشا البايتات انه ضرب الحمارة على عجزها بعصاه الخيزران . لم تكترث ولم تغير سرعتها بل نفضت رأسها في الهواء بصلف . نظر إليها عشا البايتات بإعجاب ، نظرة متفحصة ناقدة ، وقال :
(( دحين يا أبو البنات الحمارة دي مو بت الحمارة العديلة ديك الجابها جدك من بحري ؟)).
وقال الطاهر ود الرواس :
(( المحسية حبوبتها . دي بت بتها . إنت الزمن ده كله عميان ولا شنو يا مرمد ؟ )) .
وقال سعيد القانوني :
(( عشا البايتات معذور . مخه مشغول بأمور السياسات العليا . دحين هو فاضي كمان عشان يأكد الحمارة أمها منو وحبوبتها منو ؟ والله يا الطاهر إنت ماليك حق . دا راجل بقى في زمرة الحكام الأجاويد أولاد البلد )) .
وقال الطاهر :
(( صدقت والله . دا زول من الكبارات . نحن الليلة أتشرفنا خلاص وقت جنابك زاملتنا للسوق . بعد شوية تشوفوا يا جماعة . أول نصل عند الجميز ، يقابلنا الحرس ، كركون سلاح ، يضربوا لنا تعظيم ، عشان جلات عشا البايتات )).
وقال أحمد :
(( صح أنت ليه ما بتشتريلك عربية بيب "جب" زي الرجال ؟ القروش الكتيرة دي رايد تخليها لي منوب ؟
وقال سعيد القانوني :
(( عربيات الجب إن شاء الله تطير في السماء . أولاد بكري من يومما جابو عربيتهم مسخو علينا دخول السوق . كل دقيقة وتانية توت وتوت ، عملوا لنا صداع )) .
هذا الكلام لم يغضب عشا البايتات . قال ، وهو يضحك ضحكته القديمة ، وقد أمال عمامته قليلا إلى الأمام ، في زاوية تقول بان سعيد عشا البايتات لا يبالي بأحد .
كانت حوافر الحمير تقعقع في الحصا محدثة نغما نشطا متحفزا ، يتزعمها حمار سعيد في أقصى اليسار ، تليه حمارة ود الرواس التي تسير بلا جهد ، مثل شخص واثق من مقدرته ، ثم حمار سعيد القانوني وحمارة محيميد في الوسط ، وفي اليمنة حمارة احمد أبو البنات . وعلى بعد منهم حمار عبد الحفيظ ، يسير كأنما وحده ، يسرع ويبطئ . كان عبد الحفيظ صامتا ، يحرك حبات مسبحته ، وقد وضع عنان الحمار على حافة السرج ، وتركه يمشي على هواه . قال سعيد عشا البايتات :
(( المال كتير أحمد الله ، وعربية الجب إن كنت عاوزها ماها مشكلة . لكن علي اليمين الإنسان مهما كان ، إذا ما شد للسوق فوق حمار عيل زي ده ، وخت فوقو السرج السناري والفروة المرعز ، وربط البطان وشكا له اللجام ، واتحكر قعد ، والحمار يمسي رب رب ، زي كأنه سردار ولا حكمدار ، والحمار ينهق ها ها فوق الحلال ... عليك أمان الله الراجل إن ما سوى جنس دا ما يقولوا عليه راجل أخو بنات )) .
قال الطاهر :
(( عشا السجم أتاريه عندو فهم )).
وقال أحمد :
(( وين يلقى الفهم ؟ حتى عن بقى اشترالو بابور بحر يا هو سجمه ورماده )) .
تجاهل عشا البايتات كل هذا ، ونظر إلى الحمارة وقال بإعجاب :
(( الحمارة دي طفيانة بالحيل . الداهية تقول أيل انحلا )) .
تعثرت الحمارة وكادت تقع ، وقال أحمد مذعورا ، بين الجد والضحك :
(( الله لا أداك حسنة . ما عارفاك ، عينك حارة زي نار جهنم . سحرت البهيمة )) .
قال عشا البايتات :
(( إذا عاوز تلبيها هسع اشتريها منك )) .
قال سعيد القانوني :
(( إنت حمارك الراكبه دا شن عيبه ؟ إذا كان القروش غلبتك ما تشوف لك مرة تعرسها )) .
قال ود الرواس :
(( عشا البايتات بعد دا ماليه عرس . أحسن له يمشي يحج )) .
وقال أحمد :
(( ويبقى اسمه شنو ؟ حاج عشا البايتات ؟)).
قال الطاهر :
عشا البايتات شنو كمان من الحج ؟ يبقى اسمه حاج سعيد )) .
ضحك سعيد عشا البايتات القوى ضحكة طويلة ، تخفي تحتها كلاما كثيرا . ومن عجب أن عبد الحفيظ أيضا خرج عن عزلته وصمته ، فضحك ضحكة قصيرة ضحلة ، جعلت محيميد يدرك بغتة كمن يتذكر ، أن عبد الحفيظ موجود معهم . بعد ذلك غنقطع حبل الحديث ، لأن شيئا ما في إنعكاس الضوء على سطح ماء النهر ، جعل محيميد يلتفت إلى الوراء ، أدار عنان حمارته واستقبل مشرق الشمس . بانت له من ذلك البعد كأنها على هضبة ، بلا أول ولا آخر ، مكشوفة كإنسان ينام في العراء بلا غطاء . الضفة الشمالية صفراء تتوهج تحت شمس الضحى ، ثم النهر، يختفي ويبين ، كالسراب ، كالبرق . أشجار السنط والطلح تتشبث بالماء ، تليها حقول القمح ، وحين يستقر النظر على غابات النخل في الوسط ، تفاجئه فورة الحياة فيها . حقول أخرى تمتد حتى أسفل البيوت ، بعدها رمال وصحراء لا تنتهي . بانت له معلقة في فراغ ، تدنو فإذا هي على مد الذراع ، ثم تعدو مبتعدة عنه كأنها حلم عسير المنال . هناك في وضح النهار سمع أصواتهم ، ورآهم مرأى العيان . تنادوا به من ناحية النهر والصحراء ، من الشرق والغرب . رآهم يخرجون من الماء ، ويتسللون بين فروع الشجر ، ويقفزون فوق هامات النخل ورؤوس البيوت ، وينطون كأنهم يرقصون فوق القباب ويذوبون في شعاع الشمس . الوقت ليس هذا ولا ذاك ، ولكن الشروق كالمغيب ، يصيران ، ويتكرران في كل ومضة عين . تنظر بلا فزع ولا دهشة ، ثم بوعي تام جذب عنان حمارته وأدار ظهره للشمس
زقولو- المساهمات : 10
تاريخ التسجيل : 20/03/2010
الموقع : مصنع سكر حلفا الجديدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى